فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما كان كل شيء دونه سبحانه وتعالى، لأنه تحت قهره؛ قال محتقرًا لما عبدوه: {من دونه} أي وهو الرحمن.
ولما كانت معبوداتهم أوثانًا متكثرة، وكل كثرة تلزمها الفرقة والحاجة والضعف مع أنهم كانوا يسمون بعضها بأسماء الإناث من اللات والعزى، ويقولون في الكل: إنها بنات الله، ويقولون عن كل صنم: أنثى بني فلان؛ قال: {إلا إناثًا} أي فجعلوا أنفسهم للإناث عبادًا وهم يأنفون من أن يكون لهم لهم أولادًا، وفي التفسير من البخاري: إناثًا يعني الموات حجرًا أو مدرًا- أو ما أشبه ذلك؛ هذا مع أن مادة «أنث» و«وثن» يلزمها في نفسها الكثرة والرخاوة والفرقة، وكل ذلك في غاية البعد عن رتبة الإلهية، وسيأتي إن شاء الله تعالى بسط ذلك في سورة العنكبوت وأن هذا القصر قلب قصر لاعتقادهم أنها آلهة، ومعنى الحصر: ما هي إلا غير آلهة لما لها من النقص {وإن يدعون} أي يعبدون في الحقيقة {إلا شيطانًا} أي لأنه هو الآمر لهم بذلك، المزين لهم {مريدًا} أي عاتيًا صلبًا عاصيًا ملازمًا للعصيان، مجردًا من كل خير، محترقًا بأفعال الشر، بعيدًا من كل أمن، من: شاط وشطن؛ ومرد- بفتح عينه وضمها، وعبر بصيغة فعيل التي هي للمبالغة في سياق ذمهم تنبيهًا على أنهم تعبدوا لما لا إلباس في شرارته، لأنه شر كله، بخلاف ما في سورة الصافات، فإن سياقه يقتضي عدم المبالغة- كما سيأتي إن شاء الله تعالى؛ ثم بين ذلك بقوله: {لعنه الله} أي أبعده الملك الأعلى منكل خير فبعد فاحترق.
ولما كان التقدير: فقال إصرارًا على العداوة بالحسد: وعزتك لأجتهدن في إبعاد غيري كما أبعدتني! عطف عليه قوله: {وقال لأتخذنَّ} أي والله لأجتهدن في أن آخذ {من عبادك} الذين هم تحت قهرك، ولا يخرجون عن مرادك {نصيبًا مفروضًا} أي جزءًا أنت قدرته لي. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إناثا وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شيطانا مَّرِيدًا لَّعَنَهُ الله}
{إن} هاهنا معناه النفي ونظيره قوله تعالى: {وَإِن مّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] و{يَدْعُونَ} بمعنى يعبدون لأن من عبد شيئًا فإنه يدعوه عند احتياجه إليه، وقوله: {إِلاَّ إناثا} فيه أقوال:
الأول: أن المراد هو الأوثان وكانوا يسمونها باسم الإناث كقولهم: الّلات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، واللات تأنيث الله، والعزى تأنيث العزيز.
قال الحسن: لم يكن حي من أحياء العرب إلا ولهم صنم يعبدونه ويسمونه أنثى بني فلان، ويدل على صحة هذا التأويل قراءة عائشة رضي الله عنها: إلا أوثانًا، وقراءة ابن عباس: إلا أثنا، جمع وثن مثل أسد وأسد، ثم أبدلت من الواو المضمومة همزة نحو قوله: {وَإِذَا الرسل أُقّتَتْ} [المرسلات: 11] قال الزجاج: وجائز أن يكون أثن أصلها أثن، فأتبعت الضمة الضمة.
القول الثاني: قوله: {إِلاَّ إناثا} أي إلا أمواتًا، وفي تسمية الأموت إناثًا وجهان: الأول: أن الأخبار عن الموات يكون على صيغة الأخبار عن الأنثى، تقول: هذه الأحجار تعجبني: كما تقول: هذه المرأة تعجبني.
الثاني: أن الأنثى أخس من الذكر، والميت أخس من الحي، فلهذه المناسبة أطلقوا اسم الأنثى على الجمادات الموات.
القول الثالث: أن بعضهم كان يعبد الملائكة، وكانوا يقولون: الملائكة بنات الله قال تعالى: {إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة لَيُسَمُّونَ الملائكة تَسْمِيَةَ الانثى} [النجم: 27] والمقصود من الآية هل إنسان أجهل ممن أشرك خالق السماوات والأرض وما بينهما جمادًا يسميه بالأنثى. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ} أي من دون الله {إِلاَّ إِنَاثًا}؛ نزلت في أهل مكة إذ عبدوا الأصنام.
و{إِنٍ} نافية بمعنى {مَا}.
و{إناثا} أصنامًا، يعني اللاّت والعُزَّى ومَنَاةَ.
وكان لكل حيٍّ صنم يعبدونه ويقولون: أنثى بني فلان، قاله الحسن وابن عباس، وأتى مع كل صنم شيطانه يتراءى للسدنة والكهنة ويكلمهم؛ فخرج الكلام مخرج التعجب؛ لأنّ الأنثى من كل جنس أخسّه؛ فهذا جهل ممن يشرك بالله جمادًا فيسميه أنثى، أو يعتقده أنثى.
وقيل: {إِلاَّ إِنَاثًا} مواتا؛ لأن الموَات لا روح له، كالخشبة والحجر.
والموَات يخبر عنه كما يخبر عن المؤنث لاتّضاع المنزلة؛ تقول: الأحجار تعجبني، كما تقول: المرأة تعجبني.
وقيل: {إِلاَّ إناثا} ملائكة؛ لقولِهِم: الملائكة بنات الله، وهي شفعاؤنا عند الله؛ عن الضحاك.
وقراءة ابن عباس «إلاّ وَثَنا» بفتح الواو والثاء على إفراد اسم الجنس؛ وقرأ أيضًا «وُثُنا» بضم الثاء والواو، جمع وثن.
وأوثان أيضًا جمع وَثَن مثل أسد وآساد.
النحاس: ولم يقرأ به فيما علمت.
قلت: قد ذكر أبو بكر الأنباري حدّثنا أبي حدّثنا نصر بن داود حدّثنا أبو عبيد حدّثنا حجاج عن ابن جريج عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقرأ: {إن يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلاّ أَوْثَانًا}.
وقرأ ابن عباس أيضًا {إلا أُثُنًا} كأنه جمع وَثَنًا على وِثان؛ كما تقول: جمل وجِمال، ثم جمع وِثانا على وُثُن؛ كما تقول: مثال ومُثُل؛ ثم أبدل من الواو همزة لما انضمت؛ كما قال عز وجل: {وَإِذَا الرسل أُقِّتَتْ} [المرسلات: 11] من الوقت؛ فأُثنُ جمع الجمع.
وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم {إلا أُنُثا} جمع أَنِيث، كغَدِير وغُدُر.
وحكى الطبري أنه جمع إنَاث كثِمَار وثُمُر.
حكى هذه القراءة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أبو عَمرو الدّانِيّ؛ قال: وقرأ بها ابن عباس والحسن وأبو حَيْوَة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

كان قوله: {إن يدعون} بيانًا لقوله: {فقد ضلّ ضلالًا بعيدًا} [النساء: 116]، وأي ضلال أشدّ من أن يشرك أحد بالله غيرَه ثم أن يَدّعي أنّ شركاءه إناث، وقد علموا أنّ الأنثى أضعف الصنفين من كلّ نوع.
وأعجب من ذلك أن يَكون هذا صادرًا من العرب، وقد علم الناس حال المرأة بينهم، وقد حَرَمُوها من حقوق كثيرة واستضعفوها.
فالحصر في قوله: {إن يدعون من دونه إلا إناثًا} قصر ادّعائي لأنّه أعجبُ أحوال إشراكهم، ولأنّ أكبر آلهتهم يعتقدونها أنثى وهي: اللاّت، والعُزّى، ومَنَاة، فهذا كقولك لا عالم إلاّ زيد.
وكانت العزّى لقريش، وكانت مناة للأوس والخزرج، ولا يخفى أنّ معظم المعاندين للمسلمين يومئذ كانوا من هذين الحيّين: مشركو قريش هم أشدّ الناس عداء للإسلام: ومنافقوا المدينة ومشركوها أشدّ الناس فتنة في الإسلام. اهـ.

.قال الفخر:

قال المفسرون: كان في كل واحد من تلك الأوثان شيطان يتراءى للسدنة يكلمهم، وقال الزجاج: المراد بالشيطان هاهنا إبليس بدليل أنه تعالى قال بعد هذه الآية {وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} ولا شك أن قائل هذا القول هو إبليس، ولا يبعد أن الذي تراءى للسدنة هو إبليس، وأما المريد فهو المبالغ في العصيان الكامل في البعد من الطاعة ويقال له: مارد ومريد، قال الزجاج: يقال: حائط ممرد أي مملس، ويقال شجرة مرداء إذا تناثر ورقها، والذي لم تنبت له لحية يقال له أمرد لكون موضع اللحية أملس، فمن كان شديد البعد عن الطاعة يقال له مريد ومارد لأنه مملس عن طاعة الله لم يلتصق به من هذه الطاعة شيء. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا} يريد إبليس؛ لأنهم إذا أطاعوه فيما سوّل لهم فقد عبدوه؛ ونظيره في المعنى: {اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ الله} [التوبة: 31] أي أطاعوهم فيما أمروهم به؛ لا أنهم عبدوهم. وسيأتي.
وقد تقدّم اشتقاق لفظ الشيطان.
والمَرِيد: العاتِي المتمرّد؛ فعيل من مَرَد إذا عَتا.
قال الأزهري: المريد الخارج عن الطاعة، وقد مَرُد الرجل يَمْرُد مرودًا إذا عتا وخرج عن الطاعة، فهو مارد ومَرِيد ومُتَمرّد.
ابن عرفة: هو الذي ظهر شره؛ ومن هذا يقال: شجرة مرداء إذا تساقط ورقها فظهرت عيدانها؛ ومنه قيل للرجل: أمرد، أي ظاهر مكان الشعر من عارضيْه. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا}.
المراد في هذه الآية. بدعائهم الشيطان المريد عبادتهم له ونظيره قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بني آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان} [يس: 60] الآية. وقوله عن خليله إبراهيم مقررًا له: {يا أبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان} [مريم: 44] وقوله عن الملائكة بل كانوا يعبدون الجن الآية وقوله: {وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المشركين قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام: 137] ولم يبين في هذه الآيات ما وجه عبادتهم للشيطان ولكنه بين في آيات أخر أن معنى عبادتهم للشيطان إطاعتهم له واتباعهم لتشريعه وإيثاره على ما جاءت به الرسل من عند الله تعالى كقوله: {وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] وقوله: {اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ الله} [التوبة: 31] الآية فإن عدي بن حاتم رضي الله عنه لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم كيف اتخاذهم إياهم أربابًا ويفهم من هذه الآيات بوضوح لا لبس فيه أن من اتبع تشريع الشيطان مؤثرًا له على ما جاءت به الرسل، فهو كافر بالله، عابد للشَّيطان، متخذ الشيطان ربًا وإن سمى اتباعه للشيطان بما شاء من الأسماء. لأن الحقائق لا تتغير بإطلاق الألفاظ عليها كما هو معلوم. اهـ.

.قال الفخر:

قال صاحب الكشاف: قوله: {لَّعَنَهُ الله وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ} صفتان بمعنى شيطانًا مريدًا جامعًا بين لعنة الله وهذا القول الشنيع.
واعلم أن الشيطان هاهنا قد ادعى أشياء:
أولها: قوله: {لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} الفرض في اللغة القطع، والفرضة الثلمة التي تكون في طرف النهر، والفرض الحز الذي في الوتر، والفرض في القوس الحز الذي يشد فيه الوتر، والفريضة ما فرض الله على عباده وجعله حتمًا عليهم قطعًا لعذرهم، وكذا قوله: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 237] أي جعلتم لهن قطعة من المال.
إذا عرفت هذا فنقول: معنى الآية أن الشيطان لعنه الله قال عند ذلك: لأتخذن من عبادك حظًا مقدرًا معينًا، وهم الذين يتبعون خطواته ويقبلون وساوسه، وفي التفسير عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: «من كل ألف واحد لله وسائره للناس ولإبليس».
فإن قيل: النقل والعقل يدلان على أن حزب الشيطان أكثر عددًا من حزب الله.
أما النقل: فقوله تعالى في صفة البشر: {فاتبعوه إِلاَّ فَرِيقًا مّنَ المؤمنين} [سبأ: 20] وقال حاكيًا عن الشيطان {لاحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلًا} [الإسراء: 62].
وحكي عنه أيضًا أنه قال: {لأَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 82، 83] ولا شك أن المخلصين قليلون.
وأما العقل: فهو أن الفساق والكفار أكثر عددًا من المؤمنين المخلصين، ولا شك أن الفساق والكفار كلهم حزب إبليس.
إذا ثبت هذا فنقول: لم قال: {لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا} مع أن لفظ النصيب لا يتناول القسم الأكثر، وإنما يتناول الأقل؟
والجواب: أن هذا التفاوت إنما يحصل في نوع الشر، أما إذا ضممت زمرة الملائكة مع غاية كثرتهم إلى المؤمنين كانت الغلبة للمؤمنين المخلصين، وأيضًا فالمؤمنون وإن كانوا قليلين في العدد إلا أن منصبهم عظيم عند الله، والكفار والفساق وإن كانوا كثيرين في العدد فهم كالعدم، فلهذا السبب وقع اسم النصيب على قوم إبليس. اهـ.